نماذج من المحافظة على الأعمار
الأعمار تطوى والمراحل تقضى.. وهي أيام تمر مر السحاب... إذا فات يوم لم نستطع تداركه وإذا زال نهار أقبل ليل جديد.
كان يزيد الرقاشي يقول لنفسه: ويحك يا يزيد!!! من ذا يصلي عنك بعد الموت؟ من ذا يصوم عنك بعد الموت؟ من ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟ ثم يقول: أيها الناس ألا تبكون وتنوحون على أنفسكم باقي حياتكم؟ من الموت طالبه، والقبر بيته، والتراب فراشه، والدود أنيسه، وهو مع هذا ينتظر الفزع الأكبر، كيف يكون حاله( )؟!!
وهذا ميمون بن مهران، يرفع صوته بنداءات حارة، فيقول لجلسائه: يا معشر الشيوخ ما ينتظر بالزرع إذا ابيض؟ قالوا: الحصاد، فنظر إلى الشباب، فقال: يا معشر الشباب إن الزرع قد تدركه الآفة قبل أن يستحصد.
أخي الحبيب... البدار البدار:
وما مضى الشباب بمسترد
ولا يوم يمر بمستعاد
ويا أخي:
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا
واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
واخش مناقشة الحساب فإنه
لابد محص ما جنيت ويكتب
لم ينسه الملكان حين نسيته
بل أثبتاه وأنت لاه تلعب( )
أخي:
إنما فضل العقل بتأمل العواقب، فأما قليل العقل؛ فإنه يرى الحال الحاضرة، ولا ينظر إلى عاقبتها... فإن اللص يرى أخذ المال، وينسى قطع اليد، والبطال يرى لذة الراحة وينسى ما تجني من فوات العلم وكسب المال، فإذا كبر فسئل عن علم لم يدر، وإذا احتاج سأل فذل، فقد أربى ما حصل من التأسف على لذة البطالة. ثم يفوته ثواب الآخرة بترك العمل في الدنيا.
قس على هذه وانتبه للعواقب، ولا تؤثر لذة تفوت خيرًا كثيرًا وصابر المشقة تحصل ربحًا وافرًا( ).
قال عبد العزيز بن أبي رواد لرجل: من لم يتعظ بثلاث لم يتعظ بشيء... الإسلام والقرآن والمشيب( ).
ألم تك منهاة عن الزهو أنني
بدا لي شيب الرأس والضعف والألم؟
ألم بي الخطب الذي لو بكيته
حياتي حتى ينفذ الدمع لم أُلَمْ( )
قال أبو عبد الله القرشي: سيروا إلى الله تعالى عرجًا ومكاسير فإن انتظار الصحة بطالة( ).
وقال بعضهم: أكثر من يموت الشباب وآية ذلك أن الشيوخ في الناس قليل.. فكن -أخي- على حذر من أن يفجأك من لم تستعد له... فتمسي في قبرك بدون زاد... فإن:
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر
ولابد من زادٍ لكل مسافر
ولابد للإنسان من حمل عدة
ولاسيما إن خاف سطوة قاهر( )
قف يا أخي! حاسب نفسك وكن مثل محمد بن الفضل عندما قال: ما خطوت منذ أربعين سنة خطوة لغير الله –عز
وجل-( ).
وهذا خارجة بن مصعب يقول: صحبت عبد الله بن عوف أربعًا وعشرين سنة، فما أعلم أن الملائكة كتبت عليه خطيئة( ).
أخي الحبيب... أين نحن من هؤلاء؟
تمر أيامنا وتنقص أعمارنا ونحن لا نزال في غفلاتنا.. نسوف في التوبة... ونلمح سراب الأمل... وقد قال أبو سليمان الداراني: من كان يومه مثل أمس فهو في نقصان.
وكيف لا يكون في نقصان، وهو يقترب نحو منيته... ويسير إلى نهايته... وهو في تقصير متتابع ولهو، ووقت ضائع.
وحين عوتب عطاء السليمي في الرفق بنفسه قال: أتأمرونني بالتقصير، والموت في عنقي والقبر بيتي، وجهنم أمامي...
ولا أدري ما يصنع بي ربي –عز وجل-( ).
المرء تأكله الليالي
كأكل الأرض ساقطة الحديد( )
قال سعيد بن جبير: إن بقاء المسلم كل يوم غنيمة فذكر الفرائض والصلوات وما يرزقه الله من ذكره( ).
وقال ميمون بن مهران: لا خير في الدنيا إلا لرجلين، رجل تائب، ورجل يعمل في الدرجات( ).
قال ابن الجوزي:
تذكرت في سبب دخول جهنم، فإذا هو المعاصي.. فنظرت في المعاصي، فإذا هي حاصلة في طلب اللذات، فنظرت في اللذات، فرأيتها خدعًا ليست بشيء، وفي ضمنها من الأكدار ما يصيرها نغصًا فتخرج عن كونها لذات.
فكيف يتبع العاقل نفسه، ويرضى بجهنم لأجل هذه الأكدار؟
وهي ليست بكثير شيء فكيف تباع الآخرة بمثل هذه( )؟.
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له
من الله في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنه
متاع قليل والزوال قريب
قال رياح القيس: لي نيف وأربعون ذنبًا، قد استغفرت لكل ذنب مائة ألف مرة( ).
كثرت ذنوبنا فلم نحصها...وقلت ذنوبهم فعرفوها.
قال أبو إسحاق القرشي: كتب إلي أخي من مكة... يا أخي! إن كنت تصدقت بما مضى من عمرك على الدنيا، وهو الأكثر، فتصدق بما بقي من عمرك على الآخرة، وهو الأقل( ).
وفي حديث لتحريك الهمم وشحذ النفوس، قال السري: يا معشر الشباب! جدوا قبل أن تبلغو مبلغي فتضعفوا، وتقصروا كما قصرت... وكان -رحمه الله- في ذلك الوقت لا تلحقه الشباب إلى العبادة.
وكان العلاء بن زياد يقول: ينزل أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه -عز وجل- فأقاله... فليعمل بطاعة الله –عز وجل-.
ونحن -يا أخي- -أقالنا الله- عز وجل- وأمد في أعمارنا...
وفتح لنا باب التوبة... والإنابة والأوبة... فماذا بقي...؟ إنها محاسبة النفس، والجد في الطاعة، والإسراع في التوبة.
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي
درج الجنان وطيب عيش العابد
ونسيت أن الله أخرج آدم
منها إلى الدنيا بذنب واحد( )
رأيت من نفسي عجبًا... تسأل الله –عز وجل- حاجاتها، وتنسى جناياتها.. نحرص على جمع الدنيا وحطامها وهي سنوات محدودة... ولهونا عن الآخرة وهي الحياة الأبدية، قال رجل لأبي حازم: أوصني قال: كل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته غنيمة فالزمه، وكل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته مصيبة فاجتنبه( ).
وقال الحسن وهو يحكي حالنا: إن المؤمن لا يصبح إلا خائفًا... ولا يصلح إلا ذاك، لأنه بين ذنبين... ذنب مضى لا يدري كيف يصنع الله فيه، وأجل أو قال آخر... لا يدري ما كتب عليه فيه.
وقال -رحمه الله-: لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث:
أنه لم يتمتع بما جمع، ولم يدرك ما أمل، ولم يحسن الزاد لما قدم عليه( ).
قال ابن الجوزي:
رأيت الخلق كلهم في صف محاربة، والشياطين يرمونهم بنبل الهوى ويضربونهم بأسياف اللذة.
فأما المخلطون فصرعى من أول وقت اللقاء.
وأما المتقون ففي جهد جهيد من المجاهدة، فلا بد مع طول الوقوف في المحاربة من جراح، منهم يجرحون ويداوون، إلا أنهم من القتل محفوظون، بلى إن الجراحة في الوجه شين باق، فليحذر ذلك المجاهدون( ).
مضى أمسك الأدنى شهيدًا معدلاً
ويومك هذا بالفعال شهيد
فإن تك بالأمس اقترفت إساءة
فثن بإحسان وأنت حميد
ولا ترج فعل الخير منك إلى غد
لعل غدًا يأتي وأنت فقيد( )
أخي الحبيب: قس نفسك، وانظر ماذا يهمك في هذه الدنيا؟ آمالك وطموحاتك ما هي؟ أهي حطام الدنيا أم جنة عرضها السموات والأرض؟! وانظر ما يهمك من أمر، أهو للآخرة أم للدنيا؟ فقد قال الجنيد بن محمد: علامة إعراض الله عن العبد أن يشغله بما لا يعنيه( ).
فلا تشغلك الدنيا بزينتها وزخرفها فإننا:
نسير إلى الآجال في كل لحظة
وأيامنا تطوى وهن مراحل
ولم أر مثل الموت حقًا كأنه
إذا ما تخطته الأماني باطل
وما أقبح التفريط في زمن الصبا
فكيف والشيب للرأس شاغل؟
فارحل من الدنيا بزاد من التقى
فعمرك أيام وهن قلائل
الإنسان خير المخلوقات إذا تقرب من بارئه والتزم أوامره ونواهيه، وعمل بمرضاته، وآثره على هواه، وشر المخلوقات إذا تباعد عنه، ولم يتحرك قلبه لقربه وطاعته وابتغاء مرضاته فمتى اختار التقرب إليه، وآثره على نفسه وهواه فقد حكم قلبه وعقله وإيمانه على نفسه وشيطانه، وحكم رشده على غيه، وهداه على هواه، ومتى اختار التباعد منه فقد حكم نفسه وهواه وشيطانه على عقله وقلبه ورشده( ).
عن مسرور بن الأجدع قال: إن المرء لحقيق أن يكون له مجالس يخلو فيها يتذكر ذنوبه ويستغفر منها( ).
وقد كان ابن أبي ذئب الإمام يجتهد في العبادة، ولو قيل له: إن القيامة تقوم غدًا ما كان فيه مزيد اجتهاد( ).
أيأسوني لما رأوا من ذنوبي
أتراهم هم الغفور الرحيم؟
اتركوني وإن تعاظم ذنبي
إنما يغفر العظيمَ العظيمَ( )
تأملت في الخلق وإذا هم في حالة عجيبة، ويكاد يقطع منها بفساد العقل، وذلك أن الإنسان يسمع المواعظ، وتذكر له الآخرة، فيعلم صدق القائل، فيبكي وينزعج على تفريطه، ويعزم على الاستدراك، ثم يتراخى عمله بمقتضى ما عزم عليه.
فإذا قيل له: أتشك فيما وعدت به؟ قال: لا والله، فيقال له: فاعمل فينوي ذلك، ثم يتوقف عن العمل، وربما مال إلى لذة محرمة وهو يعلم النهي عنها( ).
قال أبو الدرداء: تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه من مثقال ذرة( ).
أخي التائب: الحذر الحذر من المعاصي.. فإن عواقبها سيئة، وكم من معصية لا يزال صاحبها في هبوط أبدًا مع تعثير أقدامه وشدة فقره، وحسراته على ما يفوته من الدنيا، وحسرة لمن
نالها.
فالله الله في تجويد التوبة عساها تكف كف الجزاء.. والحذر الحذر من الذنوب خصوصًا ذنوب الخلوات، فإن المبارزة لله تعالى تسقط العبد من عينه، وأصلح ما بينك وبينه في السر وقد أصلح لك أحوال العلانية.
ولا تغتر بستره، فربما يجذب عن عورتك، ولا بحلمه فربما بغت العقاب، وعليك بالقلق واللجوء إليه والتضرع( ).