بسم الله الرحمن الرحيم
انين المذنبين
عينين جاحظتين.. ووجه مكفهر..
جفنين... وكفين... وصدر مستعر...
حنين...، وأنين... ودمع منهمر...
رفع رأسه وقال لي:
أسألك بالله.. هل يغفر الله لي...؟!!
والله لقد فعلت...، وفعلت...، وفعلت...
قلت:
أخي: أرخي ستر الله عليك.. وتستر بعافيته..
فإن طعم الفضيحة مر...
واعلم أن ربك غفور رحيم... نعم والله... لو أتيته لا تشرك به شيئًا، ومعك من الخطايا والذنوب ما يضيق به الأفق.. تريد عفوه... ومغفرته.. غفر لك على ما كان منك ولا يبالي...
ولو تقربت إليه شبرًا تقرب إليك ذراعًا..، ولو تقربت ذراعًا تقرب إليك باعًا... بل لو أتيته تمشي أتاك هرولة.. جل في علاه، وتقدس في ربوبيته وإلاهيته وأسمائه الحسنى وصفاته العلى... سبحانه.. يفرح بتوبتك فرحًا شديدًا... يليق بجلاله وعظمته.. يعدك مغفرة منه وفضلا.. يبدل سيئاتك حسنات..
قال: عجبًا... جنيت... وجنيت... ذنوبًا عظيمة.. ثم يبدلها حسنات.. ما هو دليلك بالله عليك...؟!
قلت:
ألم تقرأ قول الحق جل في علاه... فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].
فبكى صاحبي – والله – حتى رحمته...
* * *
«أنين المذنبين»
إنها أنة تتلوها أنة...
وزفرة تتبعها زفرة...
ولوعة تعبقها حرقة...
آه... لهذا الأنين... كم أقض مضاجع الصالحين..
وأزعج نفوس المحبين.. أنين، وأي أنين..
إن لواعج النفس لتكاد تتحطم... في كياني..
وإن الصدر ليضيق... وإن اللسان لا ينطلق... ولا أملك إلا دمعتي... بين يدي سيدي ومولاي... هذا هو حال العبد عند سيده.. عند ربه جل وعز.
إنها دمعة أسى ولوعة.. صاغها القلب المحزون.
وخطَّها الخاطر المعنى بالأنين... ورسمها فنان الجفون على لوحة العيون، فجاءت معبرة... وللأنين والحرقة واللوعة مصورة..
أمولاي إني عبد ضعيف..
أتيتك أرغب فيما لديك..
أتيتك أشكو مصاب الذنوب
وهل يشتكى الضر إلا إليك..
فمن بعفوك يا سيدي
فليس اعتمادي إلا عليك...
آه....
كم أحرقت هذه اللوعة أجفان أهل الوجل...
فـ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: 201].
إن أنين المذنبين له لحن خاص...، وإيقاع عجيب في قلوب التائبين.
ورب ذنب أورث لوعة...
ورب لوعة أورثت فكرة...
ورب فكرة أورثت عبرة...
ورب عبرة أورثت توبة..
ورب توبة أورثت الجنة... بفضل الله وكرمه ومنه...
إن من أحرقت الخطايا قلبه...، وسودته فهو كالكوز المجخي.. لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا... لا يكون من أهل هذا الأنين..
لا يئن إلا خائف...
ولا يحن إلا محب...، ولا يتحرك قلبه إلا محزون من ذنبه...
وقلب العبد في خير ما دام بين الخوف والرجاء...
هؤلاء أسهروا الليالي المقمرة...
وأبكوا الأجفان الفاترة...
بسطوا أقدامهم في ليلهم... يتملقون العظيم.. الكريم.. الحكيم أن يتوب عليهم...، وأن يتجاوز عنهم...
يسجد أحدهم ليله كله.. وكأنه ثوب ملقى على الأرض..
الأجفان منهم تبلل الأردان..، والأثواب تخيل أنها أكفان... والدموع هي الترجمان فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 13]...
لسان حال أحدهم:
أتيناك بالفقر يا ذا الغنى
وأنت الذي لم تزل محسنًا..
وعودتنا كل فضل عسى
يدوم الذي منك عودتنا..
ففي الفضل ما أحد مثلكم
وفي الفقر لا أحد مثلنا..
ينتفض أحدهم إذا سمع البشرى..
وتأخذه الرعدة...
بل ويكاد يصرع... حينما يسمع...:
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53].
سبحان الله... سبحان الله... سبحان الله...
الجبار جل جلاله.. يؤملنا في رحمته وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: 156].
ويطلب منا الدعاء ويعدنا بالإجابة... ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60].
وينفس عن المكروب بمعيته الخاصة من نصر وتأييد وتوفيق وتسديد إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل: 128].
أيها المبارك...:
اخرج واخرق حجب آفاق ذنبك بأنينك... بتوبتك.. بصدق اللُّجأ إليه جل وعز...
اقرع الباب تجد عنده
بوفاء وسخاء وكرم...
وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ [التوبة: 15]، يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة: 142]، يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ [الشورى: 49].
وتأمل قول الحق جل شأنه: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ [آل عمران: 135].
من لها غيره...
من لها سواه... سبحانه..
سبحان من يعفو ونهفوا دائمًا
ولم يزل مهما هفى العبد عفى...
يعطي الذي يخطي ولا يمنعهُ
جلاله عن العطى لذي الخطى...
أيها المبارك...
اجعل من أنينك، وتوجعك من ذنبك مفتاحًا للولوج إلى الجنة.. بفضل الله ورحمته ومنه...
وأبشر بغفور رحيم.. يقبل التوبة عن عباده..
أبشر بخير يوم في حياتك.. إن أنت جددتها بالتوبة الصادقة الناصحة...
لا للعودة للذنب.. لا للرضا به..
لا للتساهل فيه.. لا للتمادي عليه..
لا للتفكير فيما مضى..
وإنما فكر في الإصلاح بالتوبة، والإحسان بالعودة..
إن وجوه أهل الإحسان توحي لكل أحد بالرضوان..
لأنهم خلوا بالرحمن فأكسبهم نورًا من نوره..
وفي الحديث... يقول الله جل في علاه: «أنا جليس من ذكرني»..
وإن وجوه أهل العصيان لتوحي لكل أحد بالخسران.. نعوذ بالله..
لأنهم خلوا بالشيطان فأكسبهم ضلالاً من ضلاله...، وضياعًا من ضياعه.. وظلامًا من ظلام منهده، وطريقه، قاتله الله..
يا هذا...
يا هذا...
يا هذا...
يأمرك ربك بما يسعدك.. فتتركه...
ويأمرك الشيطان بما يشقيك... فتجيب...
يأمرك الله بأن تجلو صدأ قلبك بالتوبة فيقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا [التحريم: 8]... فلا تستجيب... إلا من رحم الله -...
ويأمرك الشيطان بأن تزيد من الران على قلبك بالذنوب فيقول: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ [النساء: 119]، الشيطان يدعوكم إلى عذاب أليم، الشيطان يأمركم بالسوء... فتستجيب.. يا عجبًا.
والحق جل في علاه... يخبرك في كتابه، بخطبة الشيطان في الآخرة فيقول جل في علاه... وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم: 22].
أيها المبارك...
إن أنين المذنبين لا يقطعه إلا الوقوف بين يدي رب العالمين... عله أن يرحمك مع المرحومين... وأن يعتقك مع المعتقين، وأن يقبلك مع المقبولين..
إن إسبال العبرات..
وسكب الدمعات... والألم والحسرات وإتباع الزفرات الزفرات...
أمارة الخضوع والخشوع.. على باب الملك جل في علاه..
وتأمل الطفل الصغير إذا رغب في طلب بكى حتى يحصل عليه...
أفلا تبكي... بين يدي ربك جل وعز... إن رغبت في التوبة والعطاء...!!!
أفلا تنطرح على الأعتاب... إن أردت ولوج الباب...!!!
أفلا تطرق باب التوبة، والاستعتاب...!!!
أفلا تخط بمداد الدموع توبة صادقة... وأوبةً ناصحة... وعودًا حميدًا... لتعيش عيشًا سعيدًا!!!
إذا فردِّد... ردد أيها التائب... رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران: 193، 194].
ردد أيها التائب... «اللهم إني استغفرك وأتوب إليك».
ردد أيها التائب...
«أتوب إليك يا رحمن مما
جنت نفسي فقد عظمت ذنوبي...»
وأوقد شمعةً بدمعة...
واجعل من كل عبرة... عبرة...
وعد إلى رحاب الرضا... إلى شواطئ المغفرة... إلى دنيا السعادة.. وسعادة الدنيا... عُدْ... عُدْ... عُدْ...
أعْتَذِرُ لإشغالك... هذه المدة من عمر...
ولكني مشفق محب فإن كان هذا ذنب لي... فإن لي سلف..
وإذا الحبيب أتى بذنب واحدٍ
جاءت محاسنه بألف شفيع...
غفر الله لك... ورحمك... وجمعني بك في جنته... مع محمد بن عبد الله ، وآله وصحابته... إنه ولي ذلك...