صور من التوبة
قوافل التائبين تسير... وجموع المنيبين تقبل وباب التوبة مفتوح ودعوة تتلى من آيات القرآن الكريم: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور: 31].
دموع التائبين صادقة، وقلوبهم... منخلعة.. يخافون يومًا تتقلب فيه القلوب والأبصار.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: اجلسوا إلى التوابين، فإنهم أرق أفئدة( ).
وذكر أن الفضيل بن عياض كان شاطرًا في قطع الطريق، وكان يتعشق جارية، فبينما هو ذات ليلة يتسور عليها جدارًا إذ سمع قارئًا يقرأ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، فقال: بلى، فتاب وأقلع عما كان عليه، ورجع إلى خربة، فبات بها، فسمع سفارًا يقول: خذوا حذركم، إن فضيلاً أمامكم يقطع الطريق، فأمنهم واستمر على توبته، حتى كان منه ما كان من السيادة والعبادة والزهادة، ثم صار علمًا يقتدى به، ويهتدى بكلامه وفعاله( ).
خل الذنوب صغيرها
وكبيرها ذاك التقى
واصنع كماش فوق أر
ض الشوك يحذر ما يرى
لا تحقرن صغيرة
إن الجبال من الحصى( )
قال إبراهيم بن بشار: قلت لإبراهيم بن أدهم: كيف كان بدء أمرك؟ قال: غير ذا أولى بك، قال: قلت: أخبرني لعل الله أن ينفعنا به يومًا، قال: كان أبي من الملوك المياسير، وحبب إلينا الصيد، فركبت، فثار أرنب أو ثعلب، فحركت فرسي، فسمعت نداءً من ورائي: ليس لذا خلقت، ولابذا أمرت، فوقفت أنظر يمنة ويسرة، فلم أر أحدًا فقلت: لعن الله إبليس ثم حركت فرسي، فأسمع نداء أجهر من ذلك: يا إبراهيم ليس لذا خلقت، ولا بذا أمرت، فوقفت أنظر فلا أرى أحدًا، فقلت: لعن الله إبليس، فأسمع نداء من قربوس (حنو الفرس) سرجي بذاك، فقلت: انبهت، انبهت، جاني نذير، والله لا عصيت الله بعد يومي ما عصمني الله، فرجعت إلى أهلي، فخليت فرسي، ثم جئت إلى رعاة لأبي، فأخذت جبة كساء، وألقيت ثيابي إليه، ثم أقبلت إلى العراق، فعملت بها أيامًا، فلم يصف لي منها الحلال، فقيل لي: عليك بالشام.
في الذاهبين الأولـ
ين من القرون لنا بصائر
لما رأيت مواردًا
للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها
يسعى الأصاغر والأكابر
لا يرجع الماضي إلي
ولا من الباقين غابر
أيقنت أني لا محا
لة حيث صار القوم صائر( )
قال سلام بن أبي مطيع: كن لنعمة الله عليك في دينك، أشكر منك لنعمة الله لعليك في دنياك( ).
وقالت عائشة -رضي الله عنها- إنكم لن تلقوا الله بشيء خير لكم من قلة الذنوب فمن سره أن يسبق الدائب المجتهد، فليكف نفسه عن كثرة الذنوب( ).
أخي الحبيب: عليك بلزوم الطريق والسير على الجادة
واتق الله فتقوى ما
جاوزت قلب امرئ إلا وصل
ليس من يقطع طرقًا بطلاً
إنما من يتق الله البطل
كان الحسن يقول: نضحك ولعل الله قد اطلّع على بعض أعمالنا، فقال: لا أقبل منكم شيئًا( ).
فالدنيا خداعة غدارة... ترى منها الحسن... فتلهيك عن الدار الآخرة... ثم يفجأك الموت على حين غفلة من أمرك...
فلا تغرنك الدنيا وزينتها
وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها
هل راح منها بغير الزاد والكفن( )
وتأمل –أخي- في قول الحسن: المؤمن من علم أن ما قال الله كما قال، والمؤمن: أحسن الناس عملاً، وأشد الناس وجلاً، فلو أنفق جبلاً من مال، ما أمن دون أن يعاين، لا يزداد صلاحًا وبرًا إلا ازداد فرقًا، والمنافق يقول: سواد الناس كثير وسيغفر لي، ولا بأس علي، فيسيئ العمل ويتمنى على الله( ).
وكان الربيع بن خثيم يقول لأصحابه: تدرون ما الداء، والدواء، والشفاء؟ قالوا: لا، قال: الداء: الذنوب، والدواء: الاستغفار والشفاء: أن تتوب ثم لا تعود( ).
أخي الحبيب: جهاد النفس يحتاج إلى: صبر، ومثابرة، وخوف، ووجل، ورجاء، وأمل... لا يتهاون بالصغائر، ولا تؤتى الكبائر.
قال عمرو بن مرة: نظرت إلى امرأة فأعجبتني، فكف بصري فأرجو أن يكون ذلك كفارة( ).
أين نحن من هؤلاء؟!
أين من يطلق بصره على محارم الله؟! من يتتبع الخطوات ويلحظ المسلمات بعين شرهة.. لا يكف بصره ولا يخاف ربه.
تنفى اللذاذة ممن نال صفوتها
من الحرام ويبقى الإثم والعار
تبقى عواقب سوء من مغبتها
لا خير في لذة من بعدها النار
قال أبو حازم سلمة بن دينار في نصيحة أخوية صادقة: انظر إلى الذي تحب أن يكون معك في الآخرة فقدمه اليوم، وانظر الذي تكره أن يكون معك ثم فاتركه اليوم( ).
أخي المسلم:
إذا ما خلوت يومًا فلا تقل
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ما مضى
ولا أن ما تخفى عليه يغيب
لهونا عن الأيام حتى تتابعت
ذنوب على آثارهن ذنوب
قال مالك بن دينار -رحمه الله-: رأيت في البادية في يوم شديد البرد شابًا عليه ثوبان خلقان، وعليه آثار الدعاء وأنوار الإجابة، فعرفته، وكنت قبل ذلك عهدته في البصرة: ذا ثروة، وحسن حال، وكان ذا مال، وآمال.
قال: فبكيت لما رأيته على تلك الحال، فلما رآني بكى وبدأني بالسلام، وقال لي: يا مالك بن ينار! ما تقول في عبد أبق من مولاه؟ فبكيت لقوله بكاء شديدًا، وقلت له: وهل يستطيع المسكين ذلك؟ البلاد بلاده، والعباد عباده، فأين يهرب؟
فقال: يا مالك سمعت قارئًا يقرأ: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ. فأحسست في الحال بنار وقعت بين ضلوعي، فلا تخمد، ولا تهدأ من ذلك اليوم، يا مالك... أتراني أرحم وتطفأ هذه الجمرة من قلبي؟
فقلت له: أحسن الظن بمولاك، فإنه غفور رحيم، ثم قلت له: إلى أين؟ قال: إلى مكة شرفها الله تعالى لعلي ممن أكون إذا التجأ إلى الحرم استحق مراعاة الذمم.
قال مالك: ففارقني ومضى، فتعجبت من وقوع الموعظة منه موقعها، وما تأجج بين جنبيه من نار التيقظ والإنابة، وما حصل عليه من صدق القبول وحسن الاستماع( ).
فحي على جنات عدن فإنها
منازلك الأولى وفيها المخيم
ولكننا سبي العدو فهل ترى
نعود إلى أوطاننا ونسلم( )
أخي... طال بنا الأمل... ومضى بنا التسويف... فماذ ننتظر لنتوب؟
وحالنا وتسويفنا حكاه أبو حازم بقوله:
نحن لا نريد أن نموت حتى نتوب، ونحن لا نتوب حتى نموت( ).
لهونا الأيام حتى تتابعت
ذنوب على آثارهن ذنوب
فياليت أن يغفر الله ما مضى
ويأذن لي في توبة فأتوب( )
قال يونس بن سليمان البلخي: كان إبراهيم بن أدهم من الأشراف، وكان أبوه كثير المال والخدم والجنائب والبزاة، فبينما إبراهيم في ذلك اليوم وهو على فرسه يركضه، إذا بصوت من فوقه... يا إبراهيم ما هذا العبث؟ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ. اتق الله وعليك بالزاد ليوم الفاقة.
قال: فنزل عن دابته ورفض الدنيا وأخذ في عمل الآخرة( ).
وقال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، فقال الفضيل: أتعرف تفسيره؟! تقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فمن عرف أنه لله عبد وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسئول، ومن علم أنه مسئول، فليعد للسؤال جوابًا، فقال الرجل: فما الحيلة؟
قال: يسيرة... تحسن فيما بقي يغفر لك ما مضى وما بقي( ).
أرأيت -أخي- هذا الفضل العظيم والإحسان الجزيل... فالتوبة تجب ما قبلها.
بلغت من عمري ثمانينًا
وكنت لا آمل خمسينًا
فالحمد لله وشكرًا له
إذ زاد في عمري ثلاثينًا
وأسأل الله بلوغًا إلى
مرضاته آمين آمينًا( )
قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: كان عبد الرحمن بن يزيد بن معاوية –خلاًّ لعبد الملك بن مروان، فلما مات عبد الملك بن مروان وتصدع عن قبره، وقف عليه فقال: أنت عبد الملك الذي كنت تعدني فأرجوك- وتوعدني فأخافك، أصبحت وليس معك من غير ثوبين، وليس لك منه غير أربعة أذرع في عرض ذراعين، ثم انكفأ إلى الله، واجتهد في العبادة، حتى صار كأنه شن بال، فدخل عليه بعض أهله، فعاتبه في نفسه وإضراره بها، فقال للقائل: أسألك عن شيء تصدقني عنه قال: نعم، قال: أخبرني عن حالتك التي أنت عليها، أترضاها لنفسك؟ قال: اللهم لا، قال: أفعزمت على الانتقال منها إلى غيرها؟ قال: ما انتصحت رأيًا في ذلك، قال: أفتأمن أن يأتيك الموت على حالك التي أنت عليها؟ قال: اللهم لا.
قال: حال ما أقام عليها عاقل، ثم انكفأ إلى مصلاه.
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا
وبت أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت: يا أملي في كل نائبة
ومن عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أمورًا أنت تعلمها
مالي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل مبتهلاً
إليك يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها يا رب خائبة
فبحر جودك يروي كل من يرد( )
دخل لص على مالك بن دينار فما وجد ما يأخذ، فناداه مالك: لم تجد شيئًا من الدنيا، فترغب في شيء من الآخرة؟ قال: نعم، قال: توضأ، وصل ركعتين، ففعل ثم جلس وخرج إلى المسجد، وخرج، فسئل: من ذا؟ قال: جاء ليسرق فسرقناه( )!!
قال مطرف بن عبد الله: لأن أبيت نائمًا، وأصبح نادمًا: أحب إلي من أن أبيت قائمًا، وأصبح معجبًا( ).
نسير إلى الله في توبة صادقة وبقلب وجل، عسى الله أن يرحمنا.
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة
فلقد علمت بأن عفوك أعظم
إن كان لا يرجوك إلا محسن
فمن الذي يدعو ويرجو المجرم؟
أدعوك رب كما أمرت تضرعًا
فإذا رددت يدي فمن ذا يرحم؟
مالي إليك وسيلة إلا الرجا
وجميل عفوك ثم إني مسلم( )
أخي... أين نحن من تذكر ذنوبنا وأن ما أصابنا هو بسبب ذنوبنا؟! فقد أغلظ رجل لوكيع بن الجراح، فدخل بيته، فعفر وجهه في التراب، ثم خرج إلى الرجل فقال: زد وكيعًا بذنبه، فلولاه ما سلطت عليه( ).
وقال ابن سيرين: إني لأعرف الذنب الذي حمل به علي الدين ما هو، قلت لرجل منذ أربعين سنة: يا مفلس( ).
رحمهم الله –لقلة ذنوبهم- عرفوا من أن يؤتون... ونحن لكثرة ذنوبنا لا نحصي... ولا نتذكر..!!
قال عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: قلت ليزيد بن مرثد: مالي أرى عينك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عنه؟ قلت: عسى الله أن ينفعني به، قال: يا أخي إن الله قد توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، والله لو لم يتوعدني أن يسجنني إلا في الحمام لكنت حريًا أن لا تجف لي عين، فقلت له: فهكذا أنت في خلواتك؟ قال: وما مسألتك عنه، قلت: عسى الله أن ينفعني به، فقال: والله إن ذلك ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي، فيحول بيني وبين ما أريد، وإنه ليوضع الطعام وبين يدي، فيعرض لي، فيحول بيني وبين أكله، حتى تبكي امرأتي ويبكي صبياننا، ما يدرون ما أبكانا( ).
قدم لنفسك في الحياة تزودًا
فلقد تفارقها وأنت مودع
واهتم للسفر القريب فإنه
أنأى من السفر البعيد وأشسع
واجعل تزودك المخافة والتقى
وكأن حتفك من مسائك أسرع( )
قال ابن سيرين: إذا أراد الله -عز وجل- بعبده خيرًا جعل له واعظًا من قلبه يأمره وينهاه( ).
أخي الحبيب:
خذ من شبابك قبل الموت والهرم
وبادر التوب قبل الفوت والندم
واعلم بأنك مجزيٌ ومرتهن
وراقب الله واحذر زلة القدم( )
القلوب التائبة منكسرة بين يدي الله... تسبقها الدمعة... ويحدوها عفو الله وسعة كرمه، وهي قلوب قال عنها عوف بن عبد الله: قلب التائب بمنزلة الزجاجة يؤثر فيها جميع ما أصابها، فالموعظة إلى قلوبهم سريعة، وهم إلى الرقة أقرب، فداووا القلوب بالتوبة، فلرب تائب دعته توبته إلى الجنة حتى أوفدته عليها، وجالسوا التوابين فإن رحمة الله إلى التوابين أقرب( ).
وقال الفضيل بن عياض: كل حزن يبلى إلا حزن التائب( ).
إلهي لا تعذبني فإني
مقر بالذي قد كان مني
ومالي حيلة إلا رجائي
وعفوك إن عفوت وحسن ظني
وكم من زلة لي في الخطايا
وأنت عليَّ ذو فضل ومنِّ
يقول ابن الجوزي:
ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه، وإن تاب منها، وبكى عليها، وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة، وكأنهم قد قطعوا على ذلك، وهذا أمر غائب، ثم لو غفرت بقي، الخجل من فعلها.
فالحذر الحذر من كل ما يوجب خجلاً.
وهذا أمر قل أن ينظر فيه تائب أو زاهد، لأنه يرى أن العفو قد غمر الذنب بالتوبة الصادقة، وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل( ).
قال سلمان الفارسي: إذا أسأت سيئة في سريرة فأحسن حسنة في سريرة، وإذا أسأت سيئة في علانية، فأحسن حسنة في علانية لكي تكون هذه بهذه( ).
أخي المسلم:
من نعم الله علينا أن طريق التوبة مفتوح... ليس عليه حجاب ولا دونه أبواب.
إنه باب: أرحم الراحمين، وأكرم الأكرمين، غافر الذنب، وقابل التوب..
قال أحمد بن عاصم الأنطاكي: هذه غنيمة باردة، أصلح ما بقي من عمرك، يغفر لك ما مضى( ).
فالحمد لله الذي أمهلنا ومن العيوب سترنا.. وإلى بابه باب التوبة سيرنا..
قدم لنفسك توبة مرجوة
قبل الممات وقبل حبس الألسن( )
قال بعض السلف: كان داود –عليه السلام- بعد التوبة خيرًا منه قبل الخطيئة، فمن قضى له بالتوبة كان كما قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة، وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينيه ويعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينيه فيستغفر الله ويتوب إليه منها( ).
وقال مالك بن دينار: إن البدن إذا سقم لم ينجع فيه: طعام ولا شراب، ولا نوم، ولا راحة، وكذلك القلب إذا علقه حب الدنيا لم تنجع فيه الموعظة( ).
أخي:
أقبل على صلواتك الخمس
كم مصبح وعساه لا يمسي
واستقبل اليوم الجديد بتوبة
تمحو ذنوب صحيفة الأمس
فليفعلن بوجهك الغض البلى
فعل الظلام بصورة الشمس( )
إذا عزم العبد على السفر إلى الله -تعالى- وإرادته عرضت له الخوادع والقواطع، فينخدع أولاً: بالشهوات، والرياسات والملاذ، والمناكح والملابس، فإن وقف معها انقطع، وإن رفضها ولم يقف معها وصدق في طلبه، ابتلي بوطء عقبه، وتقبيل يده، والتوسعة له في المجلس، والإشارة إليه بالدعاء، ورجاء بركته، ونحو ذلك، فإن وقف معه، انقطع به عن الله، وكان حظه منه، وإن قطعه ولم يقف معه ابتلي: بالكرامات، والكشوفات فإن وقف معها، انقطع بها عن الله وكان حظه، وإن لم يقف معها ابتلي: بالتجريد، والتخلي، ولذة الجمعية، وعزة الوحدة، والفراغ من الدنيا، فإن وقف مع ذلك انقطع به عن المقصود( ).
وطريق التائب طريق فيه مشقة، وتحفه المزالق والشهوات، ولكنه يسير إلى رب غفور كريم.
الحسنة عنده بعشرة أمثالها، أو يضاعفها بلا عدد ولا حسبان، والسيئة عنده بواحدة ومصيرها إلى العفو والغفران وباب التوبة مفتوح لديه منذ خلق السموات والأرض إلى آخر الزمان، إن ربنا لغفور شكور.. بابه الكريم مناخ الآمال ومحط الأوزار، وسماء عطاء لا تقلع عن الغيث بل هي مدرار ويمينه ملأى لا تغيضها نفقة سحاء الليل والنهار... إن ربنا لغفور شكور( ).
أرحم بعباده من الوالدة بولدها، وأفرح بتوبة التائب من الفاقد لراحلته، التي عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة إذا وجدها، وأشكر للقليل من جميع خلقه، فمن تقرب إليه بمثقال ذرة من الخير شكرها وحمدها إن ربنا لغفور شكور( ).
يا من يجيب دعاء المضطر في الظلم
يا كاشف الضر والبلوى من السقم
قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا
وأنت يا حي يا قيوم لم تنم
هب لي بجودك ما أخطأت من جرم
يا من إليه أشار الخلق بالكرم
إن كان عفوك لم يسبق لمجترم
فمن يجود على العاصين بالنعم( )
ألقى الله –سبحانه-العداوة بين الشيطان وبين الملك، والعداوة بين العقل وبين الهوى، والعداوة بين النفس الأمارة وبين القلب، وابتلى العبد بذلك وجمع له بين هؤلاء، وأمد كل حزب بجنود وأعوان، فلا تزال الحرب سجالاً( ).
فشمر –أخي الحبيب- عن همتك.. وبادر نفسك.. فإننا كما قال معاذ بن جبل: إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه( ).
تفكرت في حشري ويوم قيامتي
وإصباح خدي في المقابر ثاويا
فريدًا وحيدًا بعد عز ومنعة
رمينا بجرمي والتراب وساديًا
تفكرت في طول الحساب وعرضه
وذل مقامي حين أعطى حسابيا
ولكن رجائي فيك ربي وخالقي
بأنك تعفو يا إلهي خطائيا
والله تعالى يبتلي عبده المؤمن بما يتوب منه.. ليحصل له بذلك من تكميل العبودية والتضرع، والخشوع لله والإنابة إليه، وكمال الحذر في المستقبل والاجتهاد في العبادة ما لم يحصل بدون التوبة، كمن ذاق الجوع والعطش، والمرض والفقر والخوف، ثم ذاق الشبع والري والعافية والغنى والأمن، فإنه يحصل له من المحبة لذلك وحلاوته ولذته، والرغبة فيه وشكر نعمة الله عليه، والحذر أن يقع فيما حصل أولاً مالم يحصل بدون ذلك( ).
عاد حماد بن سلمة سفيان الثوري، فقال سفيان: يا أبا سلمة أترى الله يغفر لمثلي؟ فقال حماد: والله لو خيرت بين محاسبة الله إياي وبين محاسبة أبوي، لأخذت محاسبة الله، وذلك لأن الله أرحم بي من أبوي.
قال خالد بن معدان مهيبًا لاغتنام الفرص واستثمار الأوقات: إذا فتح لأحدكم باب خير، فليسرع إليه، فإنه لا يدري متى يغلق عنه( ).
إذا هبت رياحك فاغتنمها
فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها
فما تدري السكون متى يكون
وإن درت نياقك فاحتلبها
فماتدري الفصيل لمن يكون( )
قال يحيى بن معاذ: لا تستبطئ الإجابة، وقد سددت طريقها بالذنوب( ).
الله يغضب إن تركت سؤاله
وابن آدم حين يسأل يغضب( )
يا أرحم الراحمين نرفع أيدي التوبة... ونستغفرك من كل ذنوبنا فنحن من التائبين العائدين.. قلوب تخفق وعيون تدمع.
أسير الخطايا عند بابك يقرع
يخاف ويرجو الفضل فالفضل أوسع
مقر بأثقال الذنوب ومكثر
ويرجوك في غفرانها فهو يطمع
فإنك ذو الإحسان والجود والعطا
لك المجد والأفضال والمن أجمع
فكم من قبيح قد سترت عن الورى
وكم نعم تترى علينا وتتبع
ومن ذا الذي يرجى سواك ويتقى
وأنت إله الخلق ما شئت تصنع؟( )
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الذي يضر صاحبه هو مالم يحصل منه توبة، فأما ما حصل منه توبة، فقد يكون صاحبه بعد التوبة أفضل منه قبل الخطيئة، كما قال بعض السلف: كان داود بعد التوبة أحسن منه حالاً قبل الخطيئة، ولو كانت التوبة من الكفر والكبائر، فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم خيار الخليقة بعد الأنبياء، وإنما صاروا كذلك بتوبتهم مما كانوا عليه من الكفر والذنوب، ولم يكن ما تقدم قبل التوبة نقصًا ولا عيبًا، بل لما تابوا من ذلك وعملوا الصالحات كانوا أعظم إيمانًا، وأقوى عبادة وطاعة ممن جاء بعدهم، فلم يعرف الجاهلية كما عرفوها( ).
والمؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع بعشرة أسباب:
أحدها: أن يتوب توبة نصوحًا ليتوب الله عليه، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
الثاني: أن يستغفر الله فيغفر الله تعالى له.
الثالث: أن يعمل حسنات يمحوها لقوله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ.
الرابع: أن يدعو له إخوانه المؤمنون ويشفعون له حيًا
وميتًا.
الخامس: أن يهدي له إخوانه المؤمنون من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به.
السادس: أن يشفع فيه نبينا محمد .
السابع: أن يبتليه الله في الدنيا بمصائب في نفسه وماله وأولاده وأقاربه ومن يحب ونحو ذلك.
الثامن: أن يبتليه في البرزخ بالفتنة والضغطة وهي عصر القبر، فيكفِّر بها عنه.
التاسع: أن يبتليه الله في عرصات القيامة من أهوالها بما
يكفِّر عنه.
العاشر: أن يرحمه أرحم الراحمين.
فمن أخطأته هذه العشرة، فلا يلومن إلا نفسه، كما قال تعالى في الأحاديث الإلهيات: «إنما هي أعمالكم، أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه»( ).
يا أهل لذة لهو لا تدوم لهم
إن المنايا تبيد اللهو واللعب
كم من رأيناه مسرورًا بلذته
أمسى فريدًا من الأهلين مغتربًا( )
قال يحيى بن معاذ: مسكين ابن آدم، قلع الأحجار أهون عليه من ترك الأوزار( ).
أخي الحبيب: الأيام تمر والساعات تسير، ونحن في رحلة إلى الدار الآخرة قد بدأت، فوقتك هو رأس مالك، فإضاعة الوقت أشد من الموت، لأن إضاعة الوقت تقطعك عن الله والدار الآخرة والموت يقطعك عن الدنيا وأهلها.
كيف -يا أخي- يكون عاقلاً من باع الجنة بما فيها بشهوة ساعة؟( ).
أخي الحبيب:
فياليت أن الله يغفر ما مضى
ويأذن في توباتنا فنتوب( )
أخي المسلم:
وأنت في طريق التوبة تلمس علامات صحة التوبة في أمور خمسة:
أولاً: أن يكون بعد التوبة خيرًا مما كان قبلها.
ثانيًا: أن لا يزال الخوف مصاحبًا له، لا يأمن مكر الله طرفة عين، فخوفه مستمر إلى أن يسمع البشرى تأتيه: أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت: 30].
ثالثًا: انخلاع قلبه، وتقطعه، ندمًا وخوفًا، وهذا على قدر عظم الذنب.
رابعًا: انكسار وذل، وخضوع بين يدي الله.
خامسًا: الازدياد في الأعمال الصالحة والمداومة عليها.
قال يحيى بن معاذ: للتائبين فخر لا يعادله فخر، فرح الله بتوبتهم.
أخي الحبيب:
حان وقت التوبة والرجوع... والإيمان والخشوع والندم والدموع فاسكب العبرات، وادع رب الأرض والسموات..
ولما قسا قلبي وضاقت مذاهبي
جعلت رجائي نحو بابك سلما
تعاظمني ذنبي فلما قرنته
بعفوك ربي كان عفوك أعظما